أمي ... أبي ...
بعد السلام والتحية،
لقد علمت أنكما ستصوتان على مسودة الدستور بالموافقة ولأني أعلم أنكما لا تقفان إلا مع الحق أحببت أن أقص عليكما قصة قصيرة وأن أطلب منكما طلباً بسيطاً:
القصة حدثت في ليلة التنحي، عندما كنا نحتشد بالملايين في ميدان التحرير والشوارع المحيطة به. دخلت الميدان من شارع محمد محمود، وكنت قد خرجت منه مع بعض أصدقائي لكي نتناول وجبة العشاء. كانت الحركة بين الحشود المكتظة صعبة. بحثنا عن مكان قريب من مكبرات الصوت، التي ستذيع خطاب مبارك، الذي كنا ننتظره جميعاً و ندعو الله أن يعلن فيه التنحي.
بينما كنت أمر وسط الحشود، أمسكت بساعدي إمرأة ترتدي عباءة وغطاءً أسود للرأس. بدت على وجهها علامات الشقاء والحزن. حسبتها في البداية تستند علي لتتفادى الوقوع بين تلك الحشود، أو تستمد مني قوة نظراً لضعف جسدها النحيف، إلا أنه عندما وقعت عيناي في عينيها نظرت إلي بتأثر بالغ و قالت لي "إوعوا تنسوا الشهدا اللي ماتوا يا بني ... إوعوا تنسوا اللي ماتو..." وانهمرت في البكاء بينما كانت تكرر كلامها وأنا كنت أحاول أن أفيق من هول الصدمة.
أحسست، وكأن هذه المرأة الضعيفة اختارتني من بين ملايين المصريين، لتوصيني بوصية أعلم تمام العلم بأنني لست أهلاً لها، أحسست كأنها تحملني مسؤولية أن أكمل مسيرة ابنها الشهيد. ومن أنا حتى أقوى على استكمال مسيرة الشهداء؟
لن أدعي بطولة لم أفعلها ولن أقول إني كنت بطلاً في الميادين، فأنا لست ذلك البطل الذي كان إذا ضربت علينا قنابل الغاز و هربنا إلى الوراء تقدم هو إلى الأمام ليرميها في وجه الشرطة. لم أكن واحداً من أولئك الأبطال الذين رابطوا أمام الداخلية في شارع محمد محمود حتى أعلن العسكر عن موعد تسليم السلطة. بل إنني كنت دائماً شاهد عيان على تلك الأحداث أقف في الصفوف الخلفية. أريد أن أقول لكما الحقيقة التي لم تشاهدانها في محطات التلفزة التي تشتت عقول متابعيها بتناقضاتها الشديدة بين قناة وأخرى.
الحقيقة التي أود أن يعرفها والداي و أن يقفا إلى جانبها هي عن أصدقائي في الميدان. عندما أمسكت بيدي أم الشهيد التي لم أكن أعرفها ولا أعرف حتى إسمها أو حتى إسم إبنها الشهيد ولم أسألها عن ذلك من هول الصدمة. أصدقائي في الميدان كانوا خليطاً من التوجهات الفكرية المختلفة وما كنا نناقش بعضنا في اختلافاتنا داخل التحرير. كنا نتقاسم الطعام كما نتقاسم الخوف بيننا. تعاهدنا أمام الله، أننا ثرنا لهدف واحد و هو "عيش ... حرية ... عدالة اجتماعية" وعاهدنا أم الشهيد في ليلة التنحي أننا لن ننسى ابنها ولن ننسى الشهداء. ولكننا الآن، لم نعد أصدقاء كما كنا. فبعض رفاق الدرب خانوا العهد من أجل السلطة. خدعونا و هتفوا معنا "عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية" ولكننا اكتشفنا أن ثورتهم كانت من أجل السلطة و ليست من أجل العيش والحرية والعدالة الاجتماعية.
إن أرادوا اليوم يا أبي أن يعيدوا كتابة التاريخ بزعمهم أنهم من صنعوا الثورة كما يدعون الآن، قل لهم "لا" فإن ابنك كان شاهد عيان على تلك الثورة. وذكرهم بأنهم لم يعلنوا مشاركتهم في يوم 25 يناير وتركوا الشباب لوحده. ذلك الشباب الذي يشوهون صورته الآن، كان يسحل في الشوارع ويعتقل في السادس والسابع والعشرين من يناير. ثم فرض الشعب عليهم الثورة فشاركوا مع الشعب في جمعة الغضب.
إن أرادوا اليوم يا أمي أن يفتروا كذباً في ديباجة مسودة دستورهم وأن يقولوا إن أحداً غير هذا الشباب هو الذي حمى الثورة، فقولوا لهم "لا" لأن من حمى الثورة هو هذا الشباب العظيم وهذا الشعب العظيم، الذي قاوم وحده تعنت العسكر في إعتصام يوليو حتى وضعوا مبارك في السجن. وقاوم رصاص العسكر وحده في أحداث محمد محمود حتى أعلنوا عن ميعاد لتسليم السلطة. و قاوم بغي العسكر وحده عندما عرى البنات وقتل الشيخ عماد ودهس مينا دانيال تحت المدرعات.
قولوا لهم "لا" لأنهم تجار دين. فكم من مرة استخدموا فيها القرآن في الذكرى الأولى للثورة في الخامس والعشرين من يناير 2012، ليشوشوا على هتاف الشعب "يسقط يسقط حكم العسكر". اليوم يستخدمون الدين أيضا، ليقسمونا لتيارين و يدعوا أن التيار المعارض لهم لا يريد الدين ولا يعرف القيم. بل قولوا لهم إننا نعرف الدين أكثر منهم و ندافع عن دين الله اذ نكشف كذبهم و تضليلهم بإسمه.
قولوا لهم "لا" لأن دستورهم يقسمنا ولا يضمن أن تتحق المطالب التي ثار من أجلها الثوار الحقيقيون، وهي "العيش والحرية والعدالة الاجتماعية". الدستور بالنسبة لهم هو صفقة يحققون بها مطالب الذين خانوا الثورة وثاروا من أجل السلطة. إنها صفقة تحقق مطالب الذين ادعوا أنهم حموا الثورة بينما كانوا يحاولون سرقتها.
قولوا "لا" لأنهم خدعونا من قبل و قالوا إن "نعم" تضمن الاستقرار وقلتم "نعم" و لم نستقر. ثم قالوا إن الإستقرار سيتحقق بعد البرلمان وعلى الرغم من خيانتهم لدماء شهداء محمد محمود، انتخبنا قوائمهم ولم نر الاستقرار. ثم طالبناهم بتسلم سلطة كاملة من العسكر في الذكرى الأولى للثورة، فرفضوا بل وعلوا صوت القرآن ليشوش على هتافاتنا، بل واشتبكوا معنا ولم نستقر. ثم جاءت الإعادة في الانتخابات بمرشحهم ضد مرشح نظام مبارك، فتحالف الكل معهم وناصرناهم وعاهدونا على أن تكون مشاركة لا مغالبة و عاهدوكم بالنهضة والاستقرار وهاهم اليوم وقد نقضوا كل العهود ولن نستقر.
قولوا "لا" لأنهم عاهدونا أن يعيدوا تشكيل الجمعية التأسيسة، ثم خانوا العهد.
قولوا "لا" لأننا نسير على خارطة طريق العسكر، التي لم يرغبوا بتغييرها لأنهم يعلمون أن عدد مقاعدهم سيقل وسيكون هناك تمثيل حقيقي لكل أطياف الشعب، لن ترضيه قطعاً جماعاتهم الفاشية لأنهم يريدون السيطرة ويزعمون أنهم أولى بها لأنهم أكثر منا ديناً وأخلاقاً ووطنية.
قولوا "لا" لأن تلك الحشود المليونية التي اجتمعت حول جامعة القاهرة لم نرها تثور ثورتها تلك لإسقاط مبارك أو لتطبيق الشريعة في عهد مبارك، بل كان رواد منصتها يكفرون الثوار لأنهم خرجوا على الحاكم ومنهم من كان يدعونا لاعطاء الفرصة لمبارك ومنهم من يقول عنا اليوم ما كان يقوله أنصار مبارك بأن خيامنا بها خمور ومخدرات و علاقات جنسية كاملة.
قولوا "لا" لأنكم علمتموني أن أقف مع الحق حتى وإن كان الباطل قوياً والحق ضعيفاً وحتى وإن كانت النتيجة النهائية بـ "نعم" فإنني لن أندم اليوم على اختياري، كما ندمت على اختياراتي من قبل. ولكن ثورتنا مستمرة أيا كانت النتيجة حتى تتحقق مطالبنا "عيش ... حرية ... عدالة اجتماعية". أقسم لكما، أن هؤلاء الشباب الثوار الحقيقيون لا يسعون إلى سلطة ولا إلى مجد شخصي. لا تصدقوا أن هناك نخبة تسوقنا. ولا تصدقوا أولئك الذين يبحثون عن دور في شاشات الفضائيات، بل هم من يقود تلك النخبة الرخوة التي تسعى هي الآخرى من أجل مصالحها الخاصة.
قولوا "لا" لأن الشباب هو من أجبر تلك النخبة، التي كانت تميل للمقاطعة، على أن تخوض تلك المعركة وأن يعتمدوا عليكم أنتم في أن تنصروهم. نحن نراهن عليكم أنتم، في حين أن الذين يريدونها "نعم" يراهنون على التقسيم وعلى الطائفية وعلى شعارات دينية كاذبة.
"أهلنا و عشيرتنا" ليس لنا بعد الله غيركم. خاننا العسكر وخذلنا، وخوننا تجار الدين وأنتم من سيحكم بيننا اليوم. وإن كانوا هم يدعون أنهم يضمنون الجنة لمن سيقول "نعم"، فنحن لا نملك جنة نضمنها وإنما نضمن لكم أن ثورتنا مستمرة من أجلكم.
قولوا "لا" لأن دستورهم باطل أو على الأقل هو شبهة و"من وقع في الشبهات وقع في الحرام". ونحن على يقين بأن الحق سينتصر.
قولوا "لا" لأننا سننتصر.